ليس هناك سلطة يمكن أن تقهر الحشود وتحولها إلى حشود متعطشة للخضوع سوى أن تكون واعظا دون إظهار القوة المادية وهذا السلاح ثقافي وديني بالأساس، نقصد هنا السلطة كما تسلسلت عبر التاريخ من أصلها اللاتيني augure التي تعني الزيادة والنمو والرفعة.. وهي تتنافر مع القوة بل تستدعي دائما نوع من “الشرعية” ..
في زمن الرباء يغزونا خطاب الوعاظ الذي يجد تربة خصبة في المجتمع الانصهاري حيث الافراد يتجردون من نرجيستهم للتعلق بالزعماء الروحيين ولو كانوا وهميين، هذا النوع من الزعيم يقدم نفسه كأنه مثالي والكل يتطلع لأن يكون مثله، يرتمون، بدون تفكير، في أحضان شخص قد يكون جاهلا وعدوانيا وناشرا لفكر القتل لكنه استطاع بالمداعبة الاديولوجية أن يسيطر على قلوبهم، إنهم يحبون زعيمهم ومستعدون للتضحية من أجله على أمل أن يهب لهم الحب بالعودة.
ولعل مثال الرئيس التركي أردوغان ساطع في هذا المجال الذي جر غلام فرنسا إلى مستنقع ثقافي وهي حلبة لن يجني منها سوى الاندحار، فلو اجري استطلاع في العالم الإسلامي حول ” قيمة ” شخص أردوغان، أظن أن النتائج ستكون مذهلة كشخصية مكتسحة ، رغم أن كل الصورة التي نشرت عن مثاليته كاذبة مائة في المائة كرجل متهور تداعبه الطموحات العثمانية..إنه رجل استطاع أن يستثمر بذكاء في السلطة بلغة الواعظ الدجال ..
اردوغان مجرد مثال ليس غير، ويطرح إشكالية على صعيد ما ترعرعنا عليه من أفكار ثابتة لا تتغير، من قبيل أن الناس يولدون أحرارا، فكيف يقبلون بعبودية طوعية تعلقا بزعيم مدمِّر. إن كتب السيكولوجيا لا تقول أشياء كثيرة عن هذه الغرائب، ففرويد مثلا يعتبر ذلك نوع من التعلق اللبيدي حيث الناس يتعرضون للتنويم، وهناك أخرون يعتبرون ذلك نتيجة للانبهار حد العمى التي تصل إلى عبادة الشخص ..
إن عالم الأفكار العقلانية تعيش لعنة كبيرة في هذا الزمان في مقابل صعود مفجع للأفكار الظلامية التي تخلق حشودا تمتلك قابلية مطلقة للموافقة المسبقة على كل ما يصرح به الوعاظ، ما قاله البارحة نصر الله زعيم حزب الله اللبناني مثير للانتباه، بصرف النظر عن احتمال وجود تكتيك في خطابه كالمعتاد، لكنه سفّه ماكرون والاوربيين والامريكيين وحلفاءهم بالمنطقة لما قال لهم أنتم من كنتم ترعون الإرهاب وتنشرونه بالمنطقة والان السلاح ارتد عليكم ..نصر الله لا يقدم نفسه كواعظ بل كرجل سياسة وحرب يحتمي بالمنطق وسلاسة الخطاب وانسجامه لكنه يحتمي بالقوة والقدرة على التضحية من أجل الفكرة، وتلك هي قوته رغم أن شرعية خطابه تبقى مستمدة من الدين نفسه.
هذه هي السلطة التي تقهر الحشود وتجعلها متعطشة للخضوع والتعلق بالملهم الأخلاقي، في مقابل ذلك نشهد انهيار السلطة بالمعنى السياسي العقلاني، سلطة رجل الادارة ، سلطة المنتخب، سلطة الأب، وسلطة رجل الدين التقليدي، وسلطة المجتمع العام ، وسلطة القيم.. أمام بروز معايير جديدة تحمل صراعا حادا وتأرجحا بين الانتقال نحو الأفضل والارتداد نحو الأسوأ.. كل هذه السلط تشتكي من العجز الفظيع على مواجهة المشكلة، لأنها تقبل أن تتبدّل في كل الاتجاهات ما عدا تعرضها لما نعته مارتن هيدجر بالتفكيك المفتوح على إعادة بناء جديدة. فما يبدو من عجز للسلط السياسية هو تعبير عن فشل منظومة برمتها تحاول أن تعيد شرعيتها من خلال جملة من المفاهيم والممارسات لإسباغ الشرعية عليها، لكنها تفشل، كلها علامات على محاولة لتجنب التفكيك: أي تفكيك منظومة لم تعد قابلة لبث الحياة في خمول المجتمع الانصهاري الذي يخلق أسباب القتل وترتد فيه الأسلحة على كل من يداعب وجوده، هنا الضرورة إلى تفكيك ليتحول إلى أفراد أحرار أيديولوجيا وفكريا وثقافيا ودينيا.
وهذا سؤال يؤرق كل من يفكر في الإشكالية، باستثناء من وضعت على عقولهم غشاوة وتحولوا إلى حشود مقهورة بوعي او بدونه؟
إن طرح الإشكالية بالشكل الصحيح هو بداية التفكير في الحل؟
ب.ع