* د. تدمري عبد الوهاب
بالرجوع الى الرسالة التي وجهها الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون إلى الملك محمد السادس بمناسبة الذكرى الخامسة والعشرين لعيد العرش، اجد ان الرسالة رغم ما تؤكد عليه من روابط الصداقة والشراكة التاريخية بين فرنسا والمغرب. وهي العلاقة التي لا تخفى على المهتمين بتاريخ علاقة البلدين التي سطرت بنودها العريضة اتفاقية ايكس ليبان، وما تضمنته من ضمانات حمائية للنظام السياسي المغربي. في مقابل امتيازات اقتصادية غير محدودة الأجال للدولة الفرنسية وتراثها الثقافي واللغوي في المغرب .بل ان هذه العلاقة جعلت منه الشريك التجاري الأول لفرنسا في القارة الافريقية بما يفوق 13 مليار يورو سنة2023 أي بارتفاع نسبته 24%عن سنة 2022 . وذلك رغم البرود الذي ساد علاقة البلدين في السنين الاخيرة لأسباب تعود أولا إلى موقف فرنسا الضبابي والغير المستساغ من الصحراء التي اعتبرها المغرب قضية مفصلية في تطوير علاقاته الخارجية خاصة مع فرنسا التي تربطه بها علاقات وطيدة منذ المرحلة الاستعمارية . و ثانيا ما اعتبرته فرنسا تجسسا عليها من طرف المغرب في ما سمي بقضية بيغاسوس، وكذا مزاحمة المغرب لها في بعض مناطق نفوذها التقليدية في دول غرب أفريقيا، إضافة إلى ذلك انحيازه لأمريكا، مما أثر سلبا على علاقة البلدين السياسية، ولن أقول العلاقة التجارية والاقتصادية التي تبين الأرقام عكس ذلك وذلك ضدا على ما تناولته بعض الأقلام المغربية خلال هذه الفترة حول ضرورة التخلي عن فرنسا كشريك لصالح الولايات المتحدة الأمريكية خاصة بعد أن اعترف دونالد ترامب في خطوة تكتيكية بمغربية الصحراء قبل انتهاء ولايته في دجنبر 2020 .
إلا أن الرسالة المذكورة أعلاه تحمل بعض الصيغ التي تحتمل عدة أوجه كالإشارة إلى السكان المحليين، بدل المواطنين المغاربة إضافة الى الالتباس المتعلق بتأييده للقرارات الأممية ذات الصلة بالصحراء وبمجهودات الامين العام للامم المتحدة، وكأنه بهذه الرسالة يتقمص موقف رئيس الحكومة الإسباني سانشيز الذي رغم اعترافه بالحكم الذاتي الذي اقترحه المغرب كحل سلمي دائم في أقاليمه الصحراوية، إلا أنه خلال كلمته في الدورة الأخيرة للجمعية العامة نجده يجدد موقفه الداعم للحل وفق القرارات الاممية.
إني استرجع هذه المواقف لكلا الدولتين التي بقدر ما تعبر عن استجابة ملموسة للضغوطات المغربية في التعاطي الإيجابي لهذه الدول مع قضيته الوطنية التي اعتبرها شرطا محددا في تنمية شراكاته الاقتصادية والتجارية، بقدر ما تنم عن عقلية براغماتية لكل من إسبانيا وفرنسا التي تعمل على الحفاظ وتطوير مصالحهما في بلد جار يتوفر على إمكانيات كبيرة للاستثمار و حجم مبادلاتهم التجارية معه يناهز 11 مليار يورو بالنسبة لإسبانيا، و 13 مليار يورو بالنسبة لفرنسا إضافة الى اتفاقيات أمنية مهمة في مجال محاربة الإرهاب والهجرة الغير النظامية خاصة وان المغرب بموقعه المحاذي للدولتين جنوب المتوسط يعد منطقة هجرة و عبور واستقرار للمهاجرين من دول جنوب الصحراء.
لكن المشترك في مواقف الدولتين والموقف الأمريكي هو الضبابية التي تتسم بها حين يجمعون مع التأييد لمقترح الحكم الذاتي والالتزام بالقرارات الأممية ذات الصلة، إضافة إلى عدم ترجمة هذا الاعتراف إلى أفعال في السياسة الخارجية لهذه الدول، في حين تعمل عبر شركاتها على توظيف هذا الاعتراف الجزئي للاستفادة من الموارد الطبيعية والاقتصادية للمغرب وأقاليمه الصحراوية.
لكن في إطار هذه الاستراتيجية المعتمدة من طرف بعض دول الاتحاد الاوربي وامريكا تجاه ملف الصحراء المغربية والمتمثلة في المزاوجة بين الاعتراف بمقترح الحكم الذاتي والقرارات الأممية ذات الصلة لجني المزيد من المكتسبات، وذلك دون قطع روابط التواصل مع الدولة الجزائرية التي في المقابل جعلت من دعمها لجبهة البوليساريو، المطالبة بالانفصال عن المغرب، معيارا لتطوير شراكاتها بدول الاتحاد، و مستعدة لتقديم كل الحوافز في هذا الشأن ولو على حساب مصالح الشعب الجزائري الذي تم توريطه في نزاع من مخلفات الحرب الباردة، ولا تستفيد منه سوى اللوبيات السياسية والمالية المنتفعة من هذا الوضع المأزوم الذي تشهده علاقة البلدين.
في إطار هذه القراءة إذن يمكن فهم ردة الفعل الجزائرية على رسالة الرئيس الفرنسي الاخيرة، عندما سحبت سفيرها من فرنسا كخطوة احتجاجية، مما دفع بالخارجية الفرنسية في المقابل إلى طلب تهدئة الأجواء المتوترة بين البلدين، علما أن فرنسا لها كذلك علاقات تاريخية بالجزائر وحجم مبادلاتهما التجارية يوازي تقريبا حجم المبادلات الفرنسية المغربية، وليس من الوارد بالنسبة للنخب السياسية في فرنسا التخلي عن هذه المصالح، أن هذه العلاقات المتشابكة بين فرنسا وكل من المغرب والجزائر يدفعنا الى فهم الموقف الفرنسي الضبابي من قضية الصحراء المغربية، بحيث يرضي في جانب منه المغرب حين يعتبره هذا الأخير انتصارا لسياسته الخارجية، لكن دون أن يقطع حبل الود بالدولة الجزائرية، وذلك كما فعلت اسبانيا سانشيز حين اتخذت نفس الموقف من قضية الصحراء، مع كل ما أثارته من ردة فعل جزائرية تأثرت بموجبها العلاقات التجارية بين البلدين وخاصة الشركات الاسبانية لتعود العلاقة التجارية بينهما الى الانتعاش من جديد بعد تصريحات رئيس الحكومة الإسبانية في الجمعية العامة الداعية إلى إعمال القرارات الأممية .
وما ينطبق على اسبانيا و فرنسا ينطبق كذلك على أمريكا التي تعمل على مغازلة الطرفين. ففي الوقت الذي اعترفت إدارتها السابقة بمغربية الصحراء، نجدها لا تتردد في الحديث عن الصحراء الغربية وضرورة إعمال القرارات الأممية في اللجنة الرابعة، بل وتعمل على نسج علاقات متميزة مع المغرب من الناحية الأمنية والعسكرية، لكن دون التفريط في علاقاتها بالجزائر التي زارها مؤخرا القائد العام لقوات أفريكوم، وحظي باستقبال رئيس الدولة الجزائرية ورئيس أركانها الجنرال شنقريحة مع التأكيد المشترك على ضرورة توطيد وتطوير الشراكة الأمنية والاقتصادية بين البلدين، وكان قد سبق ذلك اللقاء الذي جمع الرئيس تبون بالرئيس بايدن على هامش اجتماع الدول السبع G7 في روما الذي لم يستدعى إليه المغرب.
إن هذا التعامل المزدوج مع المغرب والجزائر من طرف القوى الغربية يعكس بما لا يدع مجالا للشك مدى استغلال هذه القوى للتوتر الحاصل في علاقة البلدين على خلفية النزاع الحاصل على الصحراء، وتوظيفه أولا من أجل ابتزاز الطرفين للحصول على مزيد من الامتيازات التجارية والاقتصادية وحتى الامنية مع الحرص على عدم دفعهما للتقارب مع كل من الصين وروسيا سواء بالنسبة للمغرب الذي كان قد قطع أشواطا في شراكاته مع هذه الدول، قبل ان تتدخل امريكا لثنيه على ذلك مستغلة بالدرجة الأولى ملف الصحراء، أو بالنسبة للجزائر التي كانت تاريخيا تربطها علاقات متقدمة مع القوى العالمية الشرقية وذلك قبل أن تنساق وراء المغرب مجرورة بملف الصحراء وبخيبة آمال أخرى مع حلفائها التقليديين كان آخرها عدم قبول عضويتها في مجموعة برسكس خلال الاجتماع الاخير الذي انعقد في جوهانسبورغ سنة 2023 والذي عولت عليه الجزائر كثيرا لقبول عضويتها، خاصة بعد الوعود التي تلقاها الرئيس الجزائري خلال زيارته موسكو من طرف بوتين وتدشين ساحة في العاصمة الروسية باسم الأمير عبد القادر، إضافة إلى توتر علاقاتها بكونفدرالية دول الساحل حيث تتواجد روسيا بقوة، وخاصة مالي بعد ان ألغت هذه الأخيرة اتفاقية الجزائر ودخول جيشها المساند من طرف قوات شبه رسمية روسية في حرب مع الطوارق المتواجدين على حدود البلدين بل وتحوم شبهات حول تورط المخابرات الجزائرية والفرنسية في الكمين الذي نصبته هذه المليشيات مؤخرا، و ذهب ضحيته العشرات من الجنود الماليين و الروس، وهو ما سيزيد من برودة العلاقات الروسية الجزائرية و يدفع بهذه الأخيرة إلى التقارب اكثر مع الغرب، علما أن تقارب البلدين مع الغرب الاطلسي لن يفيدهما في إصلاح علاقاتهما المتوترة نتيجة الازمة المفتعلة التي تسبب فيها ملف الصحراء الذي توظفه الدول الغربية لخدمة أجنداتها. وهي الدول التي لم نشهد لها أي انجاز في مضمار إصلاح العلاقات بين الدول، بل على عكس ذلك استراتيجتها كانت دوما قائمة على افتعال المزيد من الازمات للحفاظ على هيمنتها وسيطرتها على الشعوب والدول، وذلك عكس ما شهدناه في الحوار السعودي الايراني برعاية صينية، وما نشهده حاليا في الحوار التركي السوري برعاية روسية.
بالمختصر المفيد يمكن القول أن الاختيارات التي اتبعها كل من المغرب والجزائر في سياساتهم الخارجية و الاندفاع في رهانهما لكسب ود الغرب لتقوية موقع كل دولة على حساب الأخرى هي اختيارات خاطئة في الزمن الخطأ، والسؤال المطروح هو متى تضع الدولتين مصالحهما المشتركة كأولوية في تدبير علاقاتهما الدولية ؟.
*طنجة في 4 غشت 2024