كثيرة هي عبارات الإطراء التي لا ينفك يرددها الوزراء ورؤساء الحكومات بخصوص قطاعاتهم وحكوماتهم، كلما أتيحت لهم فرصة الحديث عن المنجزات خلال ولاياتهم التشريعية، بيد أن هناك مثلا عربيا يقول: “ليس من رأى كمن سمع”. حيث لا يمكن إخفاء الشمس بالغربال، من حيث تردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية وتفشي الفساد بمختلف أشكاله وارتفاع معدلات الفقر والبطالة، وإلا لما كان لموجة الاحتجاجات والإضرابات أن تستمر في التصاعد بهذه الوتيرة المثيرة، تنديدا بسوء التدبير والتمادي في التخبط والارتباك في مواجهة المشاكل المطروحة.
إذ ليس هناك من توصيف لأداء حكومة عزيز أخنوش رئيس حزب “التجمع الوطني للأحرار”، أبلغ من مقولة سيدنا علي بن أبي طالب كرم الله وجهه “كم حاجة قضيناها بتركها”، إذ خلافا للحكومات التي تحترم وعودها وشعوبها وتعمل جاهدة على حماية حقوق المواطنات والمواطنين وتوفر لهم الحرية والعدالة الاجتماعية والعيش الكريم، ويتنافس أعضاؤها فيما بينهم للارتقاء بمستوى القطاعات التي يشرفون على تسييرها من أجل تقديم أفضل الخدمات لمن وضعوا ثقتهم في أحزابهم السياسية وبرامجها الانتخابية.
فإن الحكومة تبدو عاجزة عن مجابهة عديد المشاكل التي يتخبط المغاربة في غياهبها دون أن تلوح في الأفق بوادر الانفراج وانبعاث الأمل، خاصة أن رئيسها أخنوش اختار أن ينأى بنفسه بعيدا ويقف يتفرج من أعلى برجه العاجي على تلك الاحتجاجات والإضرابات المتواصلة، التي تعطل العمل لمدد طويلة بالمؤسسات التعليمية والمستشفيات العمومية ومحاكم المملكة، غير عابئ بما أصبح عليه المغاربة في عهد حكومته من إحباط، جراء تدهور قدرتهم الشرائية أمام غلاء الأسعار وتفاقم معضلة البطالة، خاصة في صفوف الشباب من ذوي الشهادات العليا، الذين بلغ بهم الانتظار درجات متقدمة من اليأس.
لقد أدرك المغاربة اليوم أنهم وقعوا مرة أخرى ضحية خدعة انتخابية أكبر من سابقاتها عندما اعتقدوا عن حسن نية أن التصويت لفائدة أحزاب التحالف الحكومي الثلاثي، من شأنه أن يداوي جراحهم وينسيهم آلام وأحزان السنوات العشر العجاف التي قضوها في عهد حكومتي حزب العدالة والتنمية لولايتين متتاليتين، وأنه سيعمل على تحسين ظروف عيشهم ورد الاعتبار لهم، ما دام المواطن “يستاهل أحسن” كما جاء في أحد شعارات حزب “الحمامة”، لكنه لم يعمل في الواقع سوى على تأزيم أوضاعهم وتعميق جراحهم، بما اتخذه من قرارات جائرة وأبان عنه من ضعف كبير في الأداء الحكومي.
ولأن حكومة رجل المال والأعمال أخنوش تعاني كثيرا من ضيق الأفق وانعدام الوضوح في الرؤية، وتعتمد فقط في مواجهة عديد القضايا والمشاكل على منطق “كم حاجة قضيناها بتركها” كما سبقت الإشارة إلى ذلك، فإنها تلوذ بالهروب إلى الأمام كلما وجدت نفسها في مأزق، وتحاول تفادي كل ما من شأنه أن يتسبب لها في وجع الدماغ، في انتظار أن تبح الحناجر ويتسلل العياء إلى قوافل المحتجين.
فإلى جانب كليات الطب والصيدلة وطب الأسنان التي تعيش على إيقاع أزمة خانقة، امتدت لشهور طويلة إثر اعتزام الوزارة الوصية فرض قرار حكومي يقضي بتقليص سنوات التكوين من سبع سنوات إلى ست سنوات. وهو القرار الأحادي الذي أشعل فتيل الاحتجاجات والإضرابات التي انطلقت شرارتها الأولى منذ شهر دجنبر 2023، وشهدت بسببه هذه الجامعات عدة محطات من شد الحبل بين الطلبة ووزير التعليم العالي والبحث العلمي والابتكار عبد اللطيف ميراوي المحسوب على حزب الأصالة والمعاصرة، من مقاطعة التكوين والامتحانات وقرارات الطرد في حق بعض الطلبة وجلسات حوار ووساطات بدون جدوى، حيث ظلت هذه الأزمة غير المسبوقة في تاريخ كليات الطب عصية على الحل وتهدد بالذهاب إلى “سنة بيضاء” في ظل غياب الإرادة السياسية.
هناك كذلك تواصل احتجاجات وإضرابات هيئة كتابة الضبط المنضوية تحت لواء عدد من النقابات، التي لم تفتأ تشل المحاكم والمديريات الفرعية ومراكز الحفظ (ثلاثة أيام في الأسبوع) منذ ماي 2023، جراء ما يصفه المضربون بسياسة التسويف وتمادي رئيس الحكومة في عدم التجاوب مع مطالبهم المشروعة، المتمثلة في إقرار تعديلات النظام الأساسي وفق الصيغة المتوافق حولها مع وزارة العدل، تحسين ظروف العمل بالمحاكم وضمان احترام معايير الصحة والسلامة المهنية، رافضين تعامل حكومته الانتقائي مع مطالب قطاعات وزارية ومهنية، وما يترتب عن توالي الإضرابات من ضياع لحقوق المرتفقين والمتقاضين، وخاصة ما يتعلق بالتأخير الاضطراري لتعيين جلسات عديد السجناء المظلومين، محملين إياه مسؤولية الآثار الإجرائية والمعنوية…
فضلا عن تجاهل الحكومة الفيضانات التي ضربت عدة مناطق بالجنوب الشرقي وخلفت خسائر مادية وبشرية كبيرة، كاشفة عن غياب الحكامة والمراقبة من قبل مدبري الشأن المحلي المشرفين على الصفقات الخاصة بالقناطر والجسور والبنى التحتية التي لم تصمد كثيرا في وجع التساقطات المطرية الغزيرة. وعما عرفته مدينة الفنيدق من أحداث تسيء للمغرب، إثر توافد آلاف الشباب والأطفال القاصرين عليها من الراغبين في الهجرة غير الشرعية نحو سبتة المحتلة والأراضي الإسبانية.
ترى أين نحن مما تعهدت به الحكومة من تعزيز حكامة التدبير العمومي وتكريس فعالية المؤسسات الصحية والمحاكم وغيرها، والحرص على تحسين ظروف الموظفين والارتقاء بجودة الخدمات وتوطيد الثقة بين المواطنين والمؤسسات الوطنية، في ظل ما نشهده من احتقان اجتماعي متواصل؟ وهل بهكذا تجاهل حكومي، يمكن تنزيل ورش التغطية الصحية والنهوض بقطاع العدل وتحسين مناخ الأعمال؟
اسماعيل الحلوتي