-أيوب بولعيون –
لا يمكننا أبدا نكران أو تجاهل قيمة الحرية عند الإنسان، فهو حر ضمن الظروف والشروط التي تحيط به وتقع تحت تصرفه، وهذه الحرية هي إحدى تجليات المسؤولية التي يتحملها والأمانة التي يحملها (إِنّا عَرَضۡنَا ٱلۡأَمَانَةَ عَلَى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَٱلۡجِبَالِ فَأَبَيۡنَ أَن يَحۡمِلۡنَهَا وَأَشۡفَقۡنَ مِنۡهَا وَحَمَلَهَا ٱلۡإِنسَٰنُۖ إِنَّهُۥ كَانَ ظَلُومٗا جَهُولٗا) الأحزاب 72 . لا نعني بالحرية في هذا المقام شكلا من أشكال العصيان والتمرد والفوضى والانفلات ورفض القوانين، فهو تضييق مُخل بمفهوم فلسفي غني، حُق له أن يؤخد مأخذ الجد في التفكير والطرح المنطقي، ويُوضع موضع العناية والتأمل في النقاش، فكل تحريف أو تضليل أو فهم خاطئ للمفاهيم التي تشكل المرتكزات الكبرى لحياتنا، ينتج عنه أساسا انحراف في التفكير والتبرير، ما يؤدي أساسا إلى مسلكيات خاطئة مُشوَّهة. إن الحرية التي تستقي معناها من أنوار العقل، لا يمكن إلا أن تحيل إلى معاني دقيقة وعميقة تتجاوز كل التعريفات و التصورات الطفولية والقوالب المبتذِلة التي تُحولها إلى سلعة استهلاكية رائجة في السوق، يتم التهافت حولها لشرائها بثمن بخس، هذا التحويل الذي شوَّه أعظم وأنبل قيمة في الوجود الإنساني، هو سبب الجرائم والانتهاكات التي تُرتكب في حق الإنسان والحياة باسم “الحرية”، هذا التمثال الذي تبرر عليه أشنع الوقاحات و المصائب و الكوارث الانسانية والحروب البشعة، وكل الشهوات والرغبات المدفونة و النزعات التدميرية الكارهة للحياة التي تختبئ وراء رداء الحرية، فكل ممارسة لا ترقى لمستوى الإنسان الحُرالراشد، هي ممارسة ذات خلفية مُغرضة مجهولة كانت أو معلومة عند صاحبها، أو أنها تتم تحت القهر وغريبة عن الفعل الإنساني المبادر، يكون هدفها إشباع نزوات وغرائز بشرية أو جني مكاسب مادية ودافعها الطمع والشهوة، دون مراعاة الحدود القائمة وذاك الخيط الرفيع الفاصل بين الإنسان والحيوان، كل ذلك تحت شعار ” أنا الحرية”!. إن كل انتهاك لحرمة وقداسة وأمانة الحرية أو أية قيمة إنسانية أخرى هو في الوقت نفسه ومن حيث النتائج التابعة له، انتهاك لحُرمة الإنسان.
لِنطرح سُؤالا : هل حُرية الاختيار التي تطبع الوجود الانساني تعني الانفلات وغياب كل معاني الرقابة والمحاسبة و الجزاء؟ أم أن الحرية الإنسانية في حد ذاتها برهان على المسؤولية ووجود ما يضع لهذه الحرية حدودا منطقية؟
إن كل من ينادي ويتغنى بالحرية كنفي لكل قيد أو حدود، يضع نفسه في مفارقة محرجة، فمفهوم الحرية لا يتحدد معناه ولا يكتمل مغزاه إلا بوجود مرجع خارجي ( الأسرة، الأعراف، المجتمع، القانون، الله، الرئيس، الأخلاق…) يحددها ويؤصلها، فحين أقول أنا حر، أكون حرا إزاء ماذا ؟. هذا المعنى الثاوي المتضمِّن يُحيلنا إلى أن نشد أن الحرية هو إذن اعتراف ضمني بوعي أو بدونه بوجود كل ما يجعل هذه الحرية مقيدة ومضبوطة، خاضعة لشروط محددة، حتى تؤدي وظيفتها التي وجدت لأجلها، وهي الحيلولة بين الإنسان و بين الحيوانية، فلو كانت الحرية إطلاق كل الغرائز والتصرف بمنطق الهوى، لكان الحيوان بذلك أجدر وأحق بها، ولسُميت باسم الغرائزية بدل الحرية ! فلا يمكننا وصف الحيوان أنه حر أو مسؤول، لأنه بلا عقل يرسم له الحدود الفاصلة والطرق الواصلة، ويسن له القوانين والأنظمة والقواعد، يحدد له القيم ويحركه من الأمام، فالغريزة بوصلته الوحيدة التي تشتغل آليا بالمثيرات المحددة زمانيا ومكانيا، حيث تتكفل بقيادته وتوجيهه على نحوٍ يحفظ له البقاء والاستمرار في الحياة، فهو مدفوع من الوراء و لا تهمه الثقافة ولا الأخلاق ولا إنتاج شيء ذو قيمة حضارية، إنه حيوان راضٍ بهويته الثابتة كحيوان ولا يريد أن يعاند القدر و يصبح شيئا آخر. في مقابل هذا يعيش الإنسان المحكوم بالحرية تحت مجموعة من القواعد الاجتماعية والأخلاقية والقيمية التي ينشأ عليها منذ الطفولة، وتشكل الحرية عنده تحدٍّ في بناء هُويته والحفاظ عليها من التصدع والفشل، حيث يولد فيتعلم و يكتسب وينضبط تحت تأثير الثقافة والعقل لكي يصير إنسانا و عضوا ديناميا فاعلا بحريته داخل المجتمع الإنساني، ويسهم من موقعه في إغناء الحياة، وهنا يتميز عن الحيوان.
إن الحرية التي تُظل حياة الإنسان بظلالها الوارفة، تلكم الشجرة المباركة والأمانة الثقيلة، ليست وصفة جاهزة بطرق بسيطة، ولا احتفالا أو عطية من العطايا المادية التي تُستهلك في فترة من الإنتشاء اللحظي والفرح الطفولي، إنها ليست قطعة حلوى تُهدى، و لكنها اختبار حقيقي طويل المدى، يبدأ منذ أن يعي الإنسان حريته وفرديته بفعل ما يسلكه من مسالك تعود عليه بنتائج متباينة، وما ينتخبه من أفكار ومعاني ورؤى وأديان و معتقدات، أذواق، أخلاقيات، قيم، سلوكيات، …. فهي ليست مُعطى مسبق، و لكن عمل يُبنى عبر مخاض و تجربة حياتية غنية، ممارسة ومعايشة، نمو مستمر واكتشاف، مِران و تدريب، بحث فضولي ومخاطرة، هكذا تكون في المُحصلة استحقاق عن جدارة.
عبر هذا المسار الطويل و الرحلة المُتعبة الممتعة التي يخوض غمارها الإنسان، يَخبُر ويعيش هذا الأخير حريته على نحو ما ترسمه الأوضاع الاجتماعية و السياسية و الثقافية في بيئته، و قد يحاول بإرادته تجاوز هذه الحدود التي تضع لفرديته سقفا معينا، وذلك بدافع اكتشاف نفسه التواقة للحرية وإيجاد بعض الأجوبة على أسئلته الوجودية. هذه الرحلة التي تُعد اختيار إنساني لإثبات إمكانية المشاركة في ملحمة الحرية والخروج من الأمان الزائف الوهمي وكلأشكال التقهقر للوراء. هذه التجربة التي يحركها ويثريها كل من الخطأ و الصواب، الأصالة والزيف، الرشد و الضلال، الكبت والاشباع، الوهم والحقيقة، التملك والكينونة، النضج والطيش، الألم واللذة، السعادة والحزن، المعرفة و الجهل، الخير و الشر، الحلال والحرام، العقل و الغريزة، الطبيعة و الثقافة، الخوف والشجاعة، السلم و الحرب، الحركة والسكون، الليل والنهار، البناء و الهدم، القوة والضعف، الفوز و الخسران، الشرك و التوحيد، الرذيلة و الفضيلة، الحق والباطل، الملاك والشيطان، الجسد والروح، الاتحاد و الانفصال، الانتصار و الانهزام، الإيمان و الكفر، الحياة و الموت، الخلود و الفناء، الوجود والعدم، …بهذه الثنائيات و التقابلات التي تشكل جوهر الصراع والتدافع بين القوى داخل حلبة وجودنا ،تتخصب التجربة البشرية و تُستخلص منها عصارتها، بحيث يتأرجح الإنسان بين ضدين باحثا عن نفسه، عن الانسجام والتوافق والاتحاد مع العالم والآخرين بتجربة فردية مثمرة، ليكتب هنا قصته بريشة الحرية، ويعطي المعنى لحياته، يُبدع ما هو عليه و يصنع هُويته، إذن فالكائن الانساني المالك لإرادة الحرية، يختار ما سيكون عليه، يشارك من موقعه في صناعة قدره، بالتأثير والتأثر، بالتفاعل والإنفعال عبر الأفعال الخلاقة التي تتجاوز تلك الردود الميكانيكية الحيوانية، وذلك في المجال الذي يتحرك ويملك فيه قدرة الفهم، الافتراض والإستشراف التنبؤ والنظر العقلي، بالتالي فكل الخيارات والقرارات المُتخذة سواء كان ذلك وفق حسابات عقلية، أو إشباعا لشهوات مُشوِشة أو في أية ظروف أخرى ستؤول في النهاية إلى نتيجة و مصير محدد، على الإنسان أن يمتلك شجاعة تقبله ومواجهته بالاعتراف أولا، وهذا قد يؤهله لتغييره، واستثماره بغاية الاقتراب أكثر إلى تقليص الهوة بين الحرية والمسؤولية، بين ذاته الراغبة المريدة والواقع الموضوعي كما هو دون تشويه .
قد يبادرنا سؤال جوهري هنا : هل من مرجعية صلبة تحكم خياراتنا أم أنها خاضعة منقادة لما تُمليه الرغبات المتضاربة و الميولات المنفلتة؟
بالرجوع إلى منظومتنا الفكرية التي يُعتبر القرآن الكريم مرجعا أساسيا لها، وعمودا من أعمدتها، فإن الحرية لها من الأهمية البالغة بمكان في قضية الإيمان أو الكفر، الهدى أو الضلال، التوحيد أو الشرك، إذ لا معنى حقيقي لأية عبادة أو معتقد بغياب الحرية، وكل إله يُعبد تحت القمع والإكراه وفي ظروف تغيب فيها الحرية هو إله زائف، خواف، همُّهُ السيطرة و التحكم في الآخرين وليس الهداية والإرشاد، حيث يفتقد لكل معاني الألوهية و الربوبية الجديرة بالاعتراف بها، فالايمان والتوحيد الحق هو النابع أساسا من قناعة و إرادة الشخص المؤمن، وليس خضوعا سلبيا لما اتفق عليه الناس وتوارثوه، إنها قضية اختيار وليست إجبار. لا يعني هذا أن الإيمان هنا يتم بشكل دفعي فجائي و لكن عبر نتائج معينة آلت إليها التجارب والخبرات. لكي يكون الإيمان قويا لا يجب أن يكون بالقوة، بل بالقناعة والبرهان. يقول الشاعر الهندي طاغور ” أنا أؤمن بالله وأعبده لأنه أعطاني الحرية أن أكفر به”.( قَالَتِ ٱلۡأَعۡرَابُ ءَامَنَّاۖ قُل لَّمۡ تُؤۡمِنُواْ وَلَٰكِن قُولُوٓاْ أَسۡلَمۡنَا وَلَمَّا يَدۡخُلِ ٱلۡإِيمَٰنُ فِي قُلُوبِكُمۡۖ ) الحجرات الآية 14. وفي سورة البقرة ( لَآ إِكۡرَاهَ فِي ٱلدِّينِۖ قَد تَّبَيَّنَ ٱلرُّشۡدُ مِنَ ٱلۡغَيِّ ) . في سوره الكهف الآية 29 ( وَقُلِ ٱلۡحَقُّ مِن رَّبِّكُمۡۖ فَمَن شَآءَ فَلۡيُؤۡمِن وَمَن شَآءَ فَلۡيَكۡفُرۡۚ). الحرية إذن لها الأولوية لأنها الوجه الآخر للمسؤولية، و إعلان واضح للحق والباطل.
من داخل هذه المنظومة القرآنية الشاملة يخضع هذا الاختيار الذي يشكل ثروة للتجربة الإنسانية إلى عدة معايير و قيم و ضوابط، فبما أنه امتداد للعقل و الحرية فلا يمكن إلا أن يكون تابعا لهما، مستجيبا لأوامرهما. العقل هنا ليس ولدا عاقا منحرفا، وإنما رفيقا ناضجا يهتدي بنوره إلى الحقائق التي قررها الوحي الالهي، أما الحرية فليست “تمثالا” أو مزارا سياحيا أو شاطئا صيفيا أو ناديا ليليا أولباسا مُلطخا أوشعارا لحزب مُغرض أو تبريرا لمظاهر الانسلاخ والانحطاط الحضاري الذي نزل بالإنسان للحضيض وأسفل الدركات، ليست تمردا على القانون، ولا نزوعا إلى الحيوانية. بل عكس ذلك تماما، إنها جهد وقوة داخلية، جرأة الوقوف على حافة الانهيار دون الاستسلام لغواية السقوط، شجاعة احتضان الاقطاب المتصارعة، هي العمل الجاد الذي ينشد الغايات الكبرى و القيم العليا التي تمد الإنسان القوة ليتجاوز نفسه، الوسيلة التي يحقق بها ذاته للوصول بها إلى مدارج التكامل. إنها ليست شيئا ناجزا جاهزا يُقدم على طبق من ذهب، وإنما طريق يتحقق و يتشكل و ينطبع بفرادة صاحبها. اقتحام للعقبة وليست ارتباك وتعثر. الحرية هي القدرة على التحكم في جميع الإكراهات الغرزية فينا والاستجابة لصوت العقل الحر الذي يسعى لإلجام كل ما يشتغل بشكل اضطراري .
على ضوء هذه الدلالات التي ينتجها كل من العقل والحرية في تفاعلهما المستمر، على الإنسان أن يتحمل مسؤولية اختياراته ومسلكياته.
الاختيار مسؤولية نتحملها، وعلينا أن نؤمن و نتيقن من هذه الحقيقة جيدا دون مراوغة، إذ لا إنسان بدون مسؤولية، ولا شيء بدون ثمن، إلى جانب ضرورة الوعي بِخدعة التبريرات التي نقدمها أحيانا حين نجد أنفسنا أمام حقيقة الأمر؛ مسؤوليتنا، وبأنها ليست إلا آليات هروبية فاشلة، لا يمكنها أبدا أن تخطو بنا خطوة واحدة نحو الفهم والنضج بحقائق العالم الموضوعي المنفصل عن نرجسيتنا وأوهامنا المريحة التي تشكل منظورا ضيقا عاجز عن الرؤية الشاملة. إن كل إنسان يتملص من المسؤولية كواجب أخلاقي هو كائن جبان، يهرب من حريته ويرتجف منها، غير قادر على التقويم و الاعتراف والإصلاح والتطور. إنه موقف الطفل الذي لم ينضج، لم يتعلم بعد تحمل المسؤولية، قاصر، لا يفهم الأمور، هناك من ينوب عنه دائما في كل المواقف و الحالات، لا يمكن وضعه تحت القوانين، لأنه لم يصل بعد للسن الذي يدرك فيه عواقب الأمور، فهو بالتالي لم يرشد، لم يتعقل بعدُ، ولم يصل للمرحلة التي توجب علينا إشراكه مع البالغين الراشدين و كل الالزمات التي يتصرفون وفقها في الأقوال و الأفعال. ألا يعني بعد هذا الوصف للقاصراللامسؤول أن الذي يتخذ موقف الهارب يضع نفسه في موقف لا يرضاه أي إنسان حر مستقل؟ إِن هذا السلوك المُتبع إنما يشير إلى أَن صاحبه لا يريد أن يكبر و ينضج ويستقل، يرفض ذلك بشدة وعناد طفولي، يتعلق بالعالم كما يتعلق بأمه، إنه يلتذ أكثر أن يكون صغيرا، طفلا، رضيعا يتلقى كل الدفء والحب دون الوعي بحاجات الآخرين من حوله، يفضل أن يكون تحت مسؤولية الآخرين بمنأى عن المساءلة، يقفز ويمرح و يلهو، لا يريد أن يستوعب القوانين،لأنها تقيده، لا يهمه الانضباط وأداء ثمن الحرية التي يتمتع بها، بل يريد أن يتصرف على هواه دون مراعاة حقوق الغير، ويختار ما يراه هو مصلحة، هذا الاختيار الذي يعطيه نشوة السيطرة و الهيمنة، النشوة التي تجعله يُمارس حريته على نحو خاطئ، لأنه يفتقد للمعرفة و الرؤية الواضحة تجاه وجوده ومستلزمات العيش المشترك الذي يُجلي الكامن فينا، وهو على هذه الحالة لا يرى إلا نفسه بعين واحدة، ولم يصبح بعد إنسانا مستقلا.
من بين تجليات هذه المسؤولية المقرونة بالحرية في الدين الإسلامي، هي بيان الله عز وجل لطريق الهلاك و الفساد و الدمار و الخسران خير بيان، في مقابل سبيل النجاة و الصلاح والفوز واتباع الحق وكل القيم النبيلة التي تخدم الاستخلاف في الأرض و عمارتها، وتوحيد الله الواحد الأحد و نبذ الشركيات و الأوثان والأصنام والخرافات، وذلك بإرسال الرسل والأنبياء والصالحين لهداية الناس لنور الله، وإخراجهم من الظلمات والضلالات المُهينة لخليفة الله، حتى لا يكون للناس على الله حجة أو اعتراض يوم الحساب، ولكي تتحقق حكمة الله في الابتلاء و الاختبار وهب الله للإنسان الحرية والإرادة، حتى يكون اتباع الحق والاستجابة لله متمخض عن صراع في مجال حقيقي تحركه الاقطاب المتضادة و النوازع، هذه المكابدة التي تجعل منخيار الإنسان جديرا بنيل النجاة و الفوز الدنيوي والأخروي، فلو كانت استجابة الإنسان آلية لما كان للحياة معنى و كل ما يدور في فلكها من شرور ومعاناة، و لمَا كان هناك ما يدعو للعمل والاجتهاد و الكدح، فالتدافع و التناقض الحاصل في الطبيعة البشرية إنما هو شرط ضروري من شروط التكامل الإنساني والوصول به لفهم أسرار الوجود البشري، هذا الوجود المتشابك الغني الخصب الذي يحركه الشوق للحرية. نفهم إذن أن التقرير القرآني الذي أكد على مبدأ الحرية في عدد من المواضع لا يعني حالة من التسيب والعبثية، أو إضفاء نوع من الشرعية والمِصداقية علىكل طريق و مسلك كيفما كان، كما لا يعني غياب الحق و الصواب، فهذا ينتفي تماما مع مقصود الله و روح القرآن و مفهوم العقل الناضج المتصالح مع مقتضيات الوحي الالهي، وإنما الحرية هنا كحق من الحقوق التي جعلها الله من لوازم تحقيق الأصالة النابعة من تجربة الخطأ و الصواب التي تخصب و تثري المسيرة البشرية، واستبعاد كل أشكال الزيف التي تمنع الإنسان أن يصل و يفهم نفسه ويعرف ربه. إن الحرية هي استجابة مركبة لهذا الاختبار الكبير في أن يختار الإنسان ليس بالإكراه وتحت الضغط والقهر، ولكن في ظروف تلفها الحرية التي تؤطرها المسؤوليةالفردية والجماعية، حتى لا تتحول أنشطة البشر إلى عالم من التطاحن و التيه و التشتت و السيولة و العدمية.
نخلُص إلى أن الاختيار داخل المنظومة الإسلامية لا يتم بناءا على الهوى والامزجة البشرية المتضاربة، ولكن وفقا لتوجيهات ربانية كبرى تُشكل مرجعا أساسيا لبناء حياة الفرد والأمة على نحو سليم، يسمح بالازدهار والارتقاء سواء على المستوى المادي أو المعنوي للأفراد و الجماعات، ففي كل خياراتنا نستند إلى عدة مبادئ تشكل روح الفلسفة القرآنية الشاملة لكل جوانب الحياة، وتعتبر من مواصفات الشخصية المسلمة المتميزة، والخيارات التي نتحدث عنها لا تمس حياتنا في القرارات والمنعطفات الكبرىفقط، بل حتى في التفاصيل اليومية الصغيرة التي قد لا ننتبه إليها و نتصرف فيها وفقا لرغباتنا وانفعالاتنا المنفلتة بشكل عشوائي و اعتباطي، في حين أن هذه التوجيهات، جاءت لترشيد وتنظيم وعقلنة حياتنا في كليتها دون تجزيء، بتحديد الغايات والمقاصد و تطويع الوسائل والأدوات.تجدر الإشارة أن هذه الاضاءات الربانية كما قد يُفهم ليست قهرية ظالمة، فذلكم أقرب لنظام بشري مستبد أحمق قاصر، وليست لقمع الحرية ومُصادرتها أو تجريم الخطأ و اعتباره فشلا نهائيا، لكنها وحي الله المنزل المُحكم، الشريعةُ الأنسب للطبيعة البشرية في تكاملها، والاقدر على تهذيبها و تشذيبها ووضعها على السكة التي تحقق لها الاعتدال كشرط ضروري لكل فضيلة. كما أنها تتميز بالمرونة، وذلك حين تفسح المجال لحرية الإنسان، بما في ذلك حرية الخطأ/ المعصية، لحكمة بالغة أرادها الله أن تسري في خلقه.يقول الله تعالى (وَإِذۡ قَالَ رَبُّكَ لِلۡمَلَٰٓئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٞ فِي ٱلۡأَرۡضِ خَلِيفَةٗۖ قَالُوٓاْ أَتَجۡعَلُ فِيهَا مَن يُفۡسِدُ فِيهَا وَيَسۡفِكُ ٱلدِّمَآءَ وَنَحۡنُ نُسَبِّحُ بِحَمۡدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَۖ قَالَ إِنِّيٓ أَعۡلَمُ مَا لَا تَعۡلَمُونَ). البقرة، 30.
لا ينبغي الفهم بأن الحديث عن حرية الاختيار أن قدر الله وتصرفه في الحياة لاوجود له، فهذا فهم يتعارض مع القرآن الكريم و سنة نبيه، لكن المقصود و المُراد قوله، أن الإنسان يظل حرا حتى أمام أقدار الله التي يجعلها كثير منا مبررا للهروب من مسؤولية حريته التي تلاحقه، وذلك بالتأويل و التفسير والفهم و القراءة والتفاعل و الاستجابة، و هنا يكمن الاختلاف بين الناس في أقدارهم ومنازلهم. في هذا المقام نتذكر الصحابي الجليل عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي قرر الرجوع عن الشام لما فيها من طاعون يحصد الأرواح، فقال له أمين هذه الأمة عبيدة بن الجراح : أفرارا من قدر الله؟ فرد عليه عمر بعبارته البليغة التي تشي بالفهم الثاقب للدين : “لو غيرك قالها يا أبا عبيدة، نعم نفر من قدر الله إلى قدر الله”. إن هذا المنطق الذي أبان عليه عمر بن الخطاب و الموقف الذي جسده، يُشكلان درسا عظيما لنا، يدعونا للإنصات و التأملو النظر إلى العلاقة بين قدر الله وإرادة الإنسان، فليست الأولى نفيا للثانية أو العكس، فعمر المؤمن بحق، لم ينكر قدر الله تعالى، ولكنه لم يستسلم و يركن للسكون، بل اختار بإرادته و حُريته أن يتصرف و يتفاعل و يقرر أن يلتقي بقدر آخر، قدر يحفظ له حياته من التهلكة والموت.( وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) البقرة:195.
الإنسان ككائن يتعالى بفضل فكره على الواقع و متغيراته، ليس أمامه إلا أن يتحمل المسؤولية و ينبذ الاتكالية، وكل مظاهر الهروب و تبرير الفشل الذي يزرعه الإنسان بيديه ويسقيه بمياه الكسل والتماطل والأفكار الخاطئة القاتلة لإرادة الإنسان التي جاء ذكرها و تمجيدها وإعلاء شأنها في الخطاب القرآني.
أعتقد أنه من المهم جدا في سياق الحديث عن خيارات الإنسان التي تتم في مجال حريته النسبية المحدودة، والتبعات والنتائج التي يجب أن يواجهها بحس المسؤولية، أن نذكر ونؤكد على الجانب التربوي الجوهري لهذه القضية التي تلعب دورا محوريا في تنظيم المجتمع، وإنقاذ الحضارة من الهلاك. الإنسان منذ تنشئته الأولى التي تنطلق من الأسرة وتمتد إلى المدرسة وباقي المؤسسات الاجتماعية، يجب أن يُربى ويُعوَّد على تحمل مسؤولية أفعاله وأقواله و مواقفه، كأن يعاقَب الطفل بحرمانه ( الحِرمان أسلوب تربوي) من لعبة جراء فعل لا أخلاقي اقترفه، أو قول تعدى به على الآخرين، أو التهرب من واجب يهم الحياة الشخصية…، ويتم العقاب كنوع من الردع في جو من الشرح و التوضيح والتبرير، حتى يتسنى له أداء وظيفته و تحقيق هدفه.هكذا،و بهذه الطرق التربوية الفعالة، يمكن للفرد /المجتمع أن يتعلم تحمل مسؤوليته والاستجابة لواجباته، بدل التنصل منها و البحث المحموم عن الحقوق . يجب على الأسرة إلى جانب المدرسة أن تُربي على نحو أنه لا حق بدون واجب و أن الأول تابع للثاني وليس العكس.
إن الكثير من الآباء و الأمهات يعتقدون سذاجة أن النيابة عن واجبات و مسؤوليات من المفترض أن يقوم بها الطفل هي مسألة تدل على الحب والرعاية والحنان والاهتمام، وأن عليهما القيام بواجبه كما هو دون إزعاج ولدهما المحبوب الذي شغلته أزرار الهاتف وألعاب الفيديو ورسوم التلفاز. هذا الاعتقاد الذي تعززه الممارسة الفعلية الخاطئة، يُشكل أسلوبا ناجعا لتدمير و إفساد الطفل في مهده، حيث يعلمه الاتكالية والكسل، وأحيانا الانتهازية في باقي مراحل حياته التي تمتد إلى خارج الأسرة من عمل وعلاقات تقتضي التعاون والانضباط. هكذا،على هذا النهج التربوي الأعمى، تصنع لنا الكثير من الأسر أشخاص ينتظرون من يقوم بواجبهم، و يعتبرون ذلك حقا من حقوقهم المقدسة التيلا يجب المساس بها، أو حتى مناقشتها.
لتجنب و تخفيف صناعة مثل هذه الحالات الشاذة، التي لم تشب عن الطوق و تتغذى على غرورها ونرجسيتها، فيمنعها ذلك من النضج و إدراك الواقع كما هو منفصلا عن ذواتهم الحالمة، يجب على الأسر النهوض بالنشء الذي آثر الكسل على العمل، واللهو على الجد، وذلك بتربية تقوم على الإيمان بإمكانية الطفل أن يقوم بالمهمات و يتحمل المسؤوليات و يتصرف في وضعيات حياتية و النجاح فيها دون تدخل الراشدين، معززين هذا الإيمان بالاعتراف والتشجيع و الثواب، لأن هذا المسلك هو ما يخدم نماء الطفل ويؤهله لتحمل واجبات أكبر في مراحل شبابه، ما ينمي فيه الخشونة و الصلابة على مجابهة حياته و ما تحمله من تعثراتو أحوال الدهر المتقلبة، بدل الركون إلى النحيب و الشكوى وإلقاء اللوم دائما على الظروف و الآخرين. يجب التركيز على تربية تؤمن بالفرد ليكون فاعلا مرفوع الإرادة، لا مفعولا به عديم الهمة والعزيمة.
يولد الإنسان فيكتسب الحرية،يتلقى التربية بدءا من الأسرة الصغيرة لتهذيب حريته و توجيهها، وذلك بإخراجها من التوحش إلى مدارج الإنسانية والتحضر، بهذه العملية المركبة التي يتداخل فيها عدة عناصر، يصبح الفرد منفصلا،مستقلا، قادرا على الخوض في شُعب الحياة و مسالكها، ويهتدي بنور الفطرة إلى الطريق الحق والتوجه الصائب رغم اختلاف المسارات و التجارب الإنسانية الغنية. يشارك ككائن مُريد راغب، يختار لنفسه بنفسه، وهو لا يكون إنسانا إلا حين يحاسب نفسه بالتقويم و يقف في مواضع الخطأ و الزلل، ليُجدد النية بالتوجه للصواب، ويكون مسؤولا عن نفسه، وللتربية دور محوري في الوصول لهذه المرحلة، لأن الإنسان لا يولد مسؤولا و لكن يصبح كذلك، و الحرية ليست غنيمة يتم السطو عليها و امتلاكها كما تُمتلك الأواني والمجوهرات، ولكن يتم إنتاجها بشكل يومي عبر العمل المنضبط.
إن العبرة في مسيرة الإنسان بالخاتمة، فهو ما يصير إليه، ما يكونه في النهاية، ولهذا عليه أن يُحب قدره ككائن حر أمام مجال مفتوح المدى، ويخوض الملحمة بشجاعة ومسؤولية. يجب علينا أن ندخل تجربة الاختيار دون خوف، ولكن بإيمان ويقين بالوصول إلى غاية التكامل الإنساني، بما فينا من ثقة بالله وتوفيقه، وبدافع الشوق للمعرفة والحرية. هذا الشوق كمظهر من مظاهر تكريم الإنسان على الأرض ( وَلَقَد ۡكَرَّمۡنَا بَنِيٓ ءَادَم َوَحَمَلۡنَٰهُم ۡفِي ٱلۡبَرّ ِوَٱلۡبَحۡرِ) ،وهذا الاختيار الذي هو بداية الإنجازات، الاكتشافات، الاختراعات، الانتصارات بداية العلم والفلسفة والايمان … بداية التاريخ الإنساني، والحضارة الإنسانية.