الغبزوري السكناوي
في مدينتي، لم تبقَ قضية إلا وحُمِلت على أكتاف “الفاعلين”، ولا وجع إلا وحُوّل إلى لائحة تمويل، ولا ملف إلا ودُبّج بلغة “الشراكة”، البيئة؟ ندوة، المرأة؟ ورشة، الشباب؟ ملتقى، كلها أدوات “للتشبيك” و”تقاطع المقاربات” في ملاحقة “الأورو” والدولار، تمكين المرأة من بيع الكسكس إلكترونيًا، وتمكين الشباب من تعلم كيف يلتقط “السيلفي” مع خبير في التنمية الذاتية، نعم، في هذه المدينة التي كانت تنطق بالموت، بات الكل ينطق بـ “طلب التمويل”، وأصبح الوجع مجرد خانة في جدول Excel، والهمّ العام مادة لتقرير سنوي ملوّن بأحبار أوروبية.
لا يهم تغيّر القضايا، فالهمّ الوحيد ألا تجفّ المنح ولا تُسدّ صنابير “الأورو”، صار هؤلاء الفاعلون مثل الباعة الجائلين في سوق التنمية، يمدحون السلعة ولو كانت “مخطط عمل” فارغًا إلا من الصور، وبعد أن شبعوا من “تعزيز القدرات”، ظهر “التريند” الجديد: التمكين، تمكين النساء، تمكين الشباب… التمكين صار مثل بودرة التجميل، يُرشّ على كل شيء، لكن الوجه هو هو، والبؤس هو هو، والواقع يزداد تيبّسًا، وما بقي من “المناضلين” القدامى إلا من تحولوا إلى مقاولين، يوقعون اتفاقيات التمكين في مكاتب مكيفة، ثم يعودون ليطلبوا “منحة إضافية”.
وفي النهاية، لم يتبقَ من المجتمع المدني سوى هيكله الجاف، ولا من الفعل النضالي إلا أرشيف صور قديم، فأولئك الذين كانوا بالأمس يهتفون في ساحات الجامعات ضد الاستغلال والريع صاروا اليوم وكلاء للاستغلال الجديد: استغلال البؤس وتسويقه، غيّروا مواقعهم، غيّروا ملابسهم، بل حتى أصلهم، لكنهم لم يغيّروا شيئًا في قراهم وأحيائهم، فقط عزّزوا أرصدتهم، ومكّنوا أنفسهم من “حياة ثانية” تموّلها نفس البرامج التي جاءت لتُنقذ الفقراء، يا للسخرية، حتى البلاء صار مورِدًا، والهشاشة تحوّلت إلى ثروة، نعم، في مدينتي، صار البؤس رأسمال، والهامشُ سوقًا، و”التمكين” سلعة تُباع بعملة أجنبية.
واليوم، صار لا بد من إقحام “الفاعل الرسمي” في أي مشروع، ليس لأنّ له دورًا فعليًا، بل لأنه صار جزءًا من ديكور التقارير، حضوره يبعث برسالة طمأنة للمانحين، يظهر في الصور الجماعية ببذلة رسمية ثم يُعلّق اسمه في لائحة الشركاء كشاهد على المقاربة التشاركية، تلك المقاربة “المندمجة ذات البعد الاستراتيجي”، التي لا يفهمها أحد، لكنها تُرضي مزاج المانح الدولي الباحث عن شرعية موهومة، المهم أن يبدو كل شيء منسجمًا، أن تُربط الخيوط ولو بالغراء، وأن يظهر المشروع كمنجز وطني/محلي/دولي، ولو كانت نتائجه لا تتجاوز طاولة الاجتماع وصور “الباور بوينت”.
أما من كانوا في زمن ليس ببعيد يتصدرون المظاهرات، ويرفعون شعارات اليسار، ويحملون دفاتر “التقدّم والحرية”، فقد صاروا اليوم وكلاء في مكاتب مكيفة، حيث تختفي حرارة الشارع تحت برودة الهواء المكيف، ويتلاشى نضال الأمس في مرايا المصالح الشخصية، نفس الوجوه التي صدّحت يومًا ضد الريع والفساد، وتحاربت من أجل العدالة الاجتماعية، صارت اليوم تتفنن في إعداد الميزانيات الوهمية، وتضخيم أعداد المستفيدين بطريقة لا تخلو من المكر والخديعة، تحوّلوا من مناضلين شغوفين بأفكارهم إلى موظفي تمويل يمتهنون الحيل البيروقراطية.
هم الهداويون الجدد… لا يحملون أعلامًا ولا يرددون أذكارا، بل يحملون حقيبة أنيقة، ممتلئة ببيانات المشاريع و”أهداف التنمية المستدامة”، لا يطوفون حول البيادر والحقول، بل حول السفارات والمؤسسات المانحة، يتقنون فنّ الحضور في الورشات، والغياب عن المعانات، يضعون على صدورهم شارات، وعلى مكاتبهم توصيات، لكنهم لا يحملون همًّا واحدًا حقيقيًّا، يشبهون الدراويش في طوافهم، لكن دون روح، يتبعون خريطة التمويل حيثما وُضعت، يتحدثون لغة ناعمة لا تُزعج، ويبتسمون كما تُبتسم واجهات البنوك، هم أبناء المانحين وأحفاد الورشات، يكتبون المشاريع كما تُكتب المسلسلات: بحبكة ملفقة ونهاية مفتوحة على تمويل جديد.
هؤلاء كـ “تابعي سيدي هدي”، لا يسألون لماذا ولا كيف، لا يشككون ولا يعارضون، بل يتبعون خط التمويل كما يتبع الظل صاحبه، حيثما تحرك تحركوا، إن وُضع المشروع عن التغير المناخي، لبسوا الأخضر وتحدثوا عن الفراشات، وتغزلوا في دورة الحياة، وإن كان عن التمكين الإقتصادي، رسموا ابتسامة على شفاه النساء وأرفقوها بتقرير نصف مرحلي وعشرات الصور عالية الجودة، وإن طلب الممول الأوروبي “رؤية واضحة للنوع الإجتماعي”، حملوا اللون البنفسجي حتى في أزرار قمصانهم، وتفننوا في ترتيب الكلمات: التشاركية، الشمولية، التقاطعية… هم لا يصوغون الأفكار بل يعيدون تدويرها.
يزعمون النضال ويُعيِّنون أنفسهم صوتًا للمجتمع، لكنهم في الحقيقة صاروا عالة على الوطن، يتكاثرون في كل موسم تمويلي كما تتكاثر الفطريات في الرطوبة، ويغيّرون جلودهم كما تغيّر الحرباء لونها، يبرعون في كتابة الملفات كما يبرع الحواة في إخفاء الخداع، تفيض ملفاتهم بالأرقام، لكن الواقع فارغ إلا من طوابير الدعم، وأمل معلق على “مرحلة ثانية”، يقولون “التمكين” ويقصدون التمكُّن من المنح، و”المقاربة التشاركية” عندهم تعني تبادل الأدوار في السفر وتوقيع الحضور، يرددون “رصد الحاجيات” وهم في الحقيقة لا يرصدون إلا فرص التمويل، يدّعون بناء المجتمع، بينما أعمدته تتهاوى من حولهم وهم مشغولون بإعداد عرض شفهي لمؤتمر في الضفة الشمالية.
هؤلاء صارت لهم مهن جديدة: “خبير في التمكين”، “مُيسّر مجتمعي”، “مدرّب في بناء القدرات المحلية”… ألقاب براقة لا تقول شيئًا، وشهادات تُمنح في يوم وتُستثمر في الغد، لكنهم، يا للغرابة، لا يستطيعون التحدث دقيقة واحدة عن الملفات الحقيقية للمنطقة: البطالة المتفشية، التهميش البنيوي، الهجرة، الصحة والميناء الذي يتساقط كأوراق الخريف بلا رقيب ولا خجل، لقد باعوا كل شيء: باعوا ماضيهم، وباعوا ما كانوا يحلمون أن يكون لهم، وباعوا حتى ما لا يملكون، لم يعد فيهم ما يُقاوِم، بل ما يُراوِغ فقط، لا صوت لهم حين يتطلب الموقف شجاعة، لا موقف لهم إذا تعلق الأمر بمساءلة سلطة أو كشف اختلال.
نعرفهم واحدًا واحدًا… اختاروا مسالك جديدة، وأحياء فاخرة، وجلسات على شرفات من تمويل، من كان يعيش بالإيجار صار يملك عنوانًا، ومن كانت قدماه تسيران إلى “دار الشباب” أصبحتا تتجهان إلى الندوات المُؤدى عنها والسفريات المدفوعة، تغيرت ملامحهم، واتسعت ابتساماتهم، واتسعت معها أرصدتهم التي لا يظهر لها أثر إلا في نمط العيش، كل هذا من عرق “الفئات الهشة”، التي لا تدري أن أسماءها تُباع في ملفات “مشاريع الإدماج والتأهيل وإعادة الإدماج والدعم النفسي والاجتماعي والثقافي والاقتصادي”… وكلها تنتهي إلى تحويل مالي في حساب “الفاعل الجمعوي”.
نسأل الله أن يرفع عن هذه المدينة بلاءهم، وأن يغلق عنهم أبواب التمويلات كما أغلقوا أبواب الأمل في وجوه من صدّقهم يومًا، إنهم تجار المعاناة، يقتاتون على الجراح، ويستثمرون في العاهات، ويحوّلون الألم إلى مشروع قابل للتمويل. يرفعون الشعارات كي يسقطوا على مائدة الدعم كالأبطال الكاذبين، يتقنون فن الظهور في الصورة، لكنهم يختفون عند أول سؤال عن الأثر، يتحدثون عن الأمل وهم لا يؤمنون به، ويعرضون قصص النجاح وهم يعرفون أن لا نجاح سوى أرصدتهم المتنامية، كل تقرير عندهم شهادة زور، وكل ورشة تمرين على تمويه الخيبة.
يجعلون من الفقر مادةً للعروض، يعرضونه كسلعة قابلة للتسويق في تقارير مصقولة، تتفنن في رسم الألم على شرائح Power Point يقتاتون على وجع الناس، يصوغونه أرقامًا وإحصاءات، ويبيعونه لمن يدفع أكثر، ومن النساء، يصنعون واجهةً زائفة للتمكين، يزيّنون بها أغلفة المشاريع، ويضعون صورتهن في مقدمات الكتيبات، بينما الحقيقة تُدفن في القرى البعيدة، خلف عتبات الصمت والخذلان، أما الأطفال، فمدخل للاستعطاف، تُستدر بهم عواطف المانحين، وتُفتح بهم خزائن الدعم الخارجي، دون أن يسألهم أحد: ماذا تحلمون؟
ثم، حين تصل المنح، يبتلعون التمويل باسم “الاستدامة”، وتُوزع الفتات بانتقائية، تُقاس بالولاء لا بالحاجة، ما استدام فيهم إلا الطمع، وما تغيّر إلا لون الحقيبة والجهة المانحة، تتبدل الشعارات، وتظل الوجوه ذاتها، تتقن التلوّن حسب الممول أما المدينة، فتمارس طقسها المعتاد في الصبر، تتنفس الخيبة كل صباح، وتتحمل تمثيلية طويلة بلا انقطاع، تتفرج على المسرحية ذاتها، تتكرر فصولها، تُبدَّل الأقنعة، لكن النص محفوظ، محفوظ جدًا… كأنه وُلد معهم.