إن المتتبع لما يحدث في قطاع غزة من قصف جوي بالصواريخ الضخمة ومجازر وحشية في حق الأطفال والنساء والشيوخ وإبادة جماعية من قبل جيش الاحتلال الإسرائيلي، وما تتعرض إليه القضية الفلسطينية من محاولة تصفية أمام أنظار العالم وفي ظل التخاذل العربي، يعتقد جازما أن زمن النخوة العربية لم يعد له وجود على الإطلاق، بعد أن كانت النخوة من القيم النبيلة الراسخة في مجتمعاتنا العربية، باعتبارها رمزا للهوية والانتماء العربي وليست فقط تعبيرا عن المروءة والشهامة ونصرة المظلومين…
بيد أنه لا يلبث أن يعود للاعتراف بأن النخوة العربية لم تمت بعد في ضمائر وقلوب بعض الشعوب وفي مقدمتهم الشعب المغربي، الذي يعد من أقوى الشعوب تضامنا مع قطاع غزة المحاصر وأشد غيرة على القضية الفلسطينية، وأكثرها تنظيما للتظاهرات المناصرة للشعب الفلسطيني الأعزل. إذ أن المسيرات الاحتجاجية المنددة والرافضة للعدوان الإسرائيلي المتواصل تكاد لا تتوقف منذ عملية “طوفان الأقصى”، حيث أن المغاربة بمختلف مدن المملكة الشريفة يقومون بمسيرات ووقفات احتجاجية بوتيرة يومية، يشجبون من خلالها جرائم الاحتلال على القطاع الجريح ويطالبون بوقف التطبيع والعلاقات الدبلوماسية للبلاد مع الاحتلال الإسرائيلي.
فالقضية الفلسطينية تسري في عروق نسيجنا المجتمعي وتسكن في أعماق قلوب المواطنات والمواطنين المغاربة، بل إنها تجري في عروقهم مجرى الدم فرادى وجماعات. وإلا ما كنا لنشهد من حين لآخر بعض العمليات الاستشهادية والمواقف البطولية هنا وهناك، ومنها الموقف الأصيل للمهندسة المغربية ابتهال أبو السعد، التي أبت إلا أن تعبر عن رفضها التام المشاركة في جرائم شركة مايكروسوفت، وانحازت لقيم الإنسانية النبيلة والعدالة التي تمثلها قضية الشعب الفلسطيني، مجسدة بذلك صفاء ضميرها الإنساني وقوة المبدأ الأخلاقي، وكاشفة عن الوجه البشع لهذه المؤسسات والشركات المتصهينة ومدى دورها الكبير في عمليات الهجمات الإجرامية والإبادة الجماعية في حق المدنيين الأبرياء في قطاع غزة وغيره من الأراضي الفلسطينية المغتصبة.
ترى من تكون ابتهال أبو السعد؟ هي بكل بساطة مهندسة ومبرمجة مغربية، ولدت في مدينة الرباط سنة 1999، وتابعت دراستها هناك إلى أن نالت شهادة البكالوريا في العلوم الرياضية عام 2017، وبعدها حصلت على منحة للدراسة بجامعة “هارفارد” الأمريكية وتخرجت منها في تخصص: الذكاء الاصطناعي. ثم عملت لدى شركة “مايكروسوفت” العالمية، غير أنها اختارت الخروج عن صمتها خلال حفل بهيج أقيم بالولايات المتحدة الأمريكية يوم الجمعة 4 أبريل 2025بمناسبة حلول الذكرى 50 لتأسيس هذه الشركة، وعلى عكس ما كان يبديه الحاضرون من شعور بالفرح والانتشاء، سارعت إلى فضح حقيقة الشركة عبر الاحتجاج والتنديد بما اعتبرته “تواطؤا” مع الاحتلال الإسرائيلي، من خلال تسخير الشركة أدوات الذكاء الاصطناعي الخاصة بها لخدمة جيش الاحتلال…
ومباشرة بعد أن تم فصلها من وظيفتها في شركة “مايكروسوفت”، دعت المهندسة ابتهال أبو السعد في 9 أبريل 2025 بواسطة مقطع مصور نشرته بمنصة “إنستغرام” إلى مقاطعة جميع منتجات الشركة وعدم استخدامها، جراء دعمها المستمر لدولة إسرائيل التي لا تنفك ترتكب إبادة جماعية ضد الفلسطينيين في قطاع غزة المحاصر على مدى أزيد من عام ونصف، وتبليغ كبار مسؤوليها رسالة بعدم دعمها ماديا، إلى حين العودة إلى جادة الصواب والتوقف عن مساندة إسرائيل. وفي ذات الوقت دعت كذلك إلى فضح جميع الشركات الداعمة للكيان الصهيوني، حيث قالت: “كل شخص يعمل في أي شركة تنتهك المبادئ الإنسانية عليه أن يرفع صوته ويغادرها، ويتحدث عن ذلك”
وهو الموقف المشرف الذي أثار استحسان الملايين من النساء والرجال عبر العالم، وجعل حركة المقاومة الفلسطينية “حماس”تدعو بدورها جميع العاملين في المؤسسات الداعمة للكيان الإسرائيلي الاحتذاء بموقف المهندسة ابتهال، وتثمن عاليا مثل هذا الموقف البطولي، معتبرة أن “ابتهال أضاءت بتضحية وشجاعة نادرتين على تواطؤ كبرى شركات التكنولوجيا العالمية مع آلة القتل الصهيونية من خلال تزويد جيش الاحتلال المجرم بأدوات وتقنيات الذكاء الاصطناعي التي يتم توظيفها في تنفيذ جريمة الإبادة الجماعية بحق الشعب الفلسطيني”
ولم تقف حركة “حماس” في تصريحها عند هذا الحد من التنويه والإشادة، بل طالبت كذلك الأمم المتحدة والمنظمات الحقوقية حول العالم بتوثيق كافة أشكال التواطؤ التكنولوجي مع جرائم الاحتلال، ومقاضاة هذه الشركات أمام المحاكم الدولية، وفرض عقوبات صارمة مقابل ما تقوم به من انتهاكات للقوانين الدولية والأخلاقيات الإنسانية، ولاسيما أن تحقيقا لوكالة “أسوشيتد بريس” سبق له الكشف عن نماذج ذكاء اصطناعي من شركتي “مايكروسوفت” و”أوين إيه آي” تم استخدامهما كجزء من برنامج عسكري إسرائيلي لاختيار أهداف القصف خلال الحربين الأخيرتين في غزة ولبنان.
إن إقدام المهندسة ابتهال أبو السعد على التضحية بوظيفتها في إحدى الشركات العالمية الكبرى من أجل مناصرة القضية الفلسطينية وإعلان تضامنها اللامشروط مع الشعب الفلسطيني الصامد، لعمري ذلك هو الدرس البليغ في معنى النخوة العربية ونكران الذات، الذي يجب أن يستفيد منه ليس فقط العاملون بباقي المؤسسات والشركات الداعمة للكيان الصهيوني في غطرسته عبر العالم، بل حتى المسؤولين الحكوميين في بلادنا الذين يتهافتون على المناصب والمكاسب، ويرجحون كفة مصالحهم الذاتية والحزبية الضيقة على المصلحة العليا للوطن والمواطنين المغاربة.
اسماعيل الحلوتي