محمد كرم
كنت دون العشرين بقليل حينما وجهت شراع مركبي نحو الديار الفرنسية بنية متابعة الدراسة بإحدى جامعاتها. لم يكن التأقلم مع أجواء الحياة الجديدة بالأمر الهين خلال الشهور الأولى من مقامي هناك، و هذا شيء طبيعي مادام أن البون بين طبيعة التربة المصدرة و خصوصيات التربة المستقبلة شاسع جدا. رغم ذلك، لم أجد منذ الوهلة الأولى صعوبة تذكر في استيعاب ما كان يجري حولي بذلك البلد الجميل.
كان كل شيء واضحا، فقد وجدتني بين أحضان مجتمع لائكي لا تناقض فيه بين القوانين المكتوبة و الواقع المعاش، مجتمع الدين فيه شأن شخصي إلى درجة أن قرع أجراس الكنائس لم يعد له وجود تقريبا و إلى درجة أن مصطلحات من قبيل “لقيط” و “عذراء” و “خيانة زوجية” و حتى “زواج” فقدت قوتها الأصلية و لم تعد تثير أي نقاش مجتمعي أو أكاديمي. كل العلاقات الإنسانية هناك يحكمها التراضي بين الناس و كل النزاعات يحتكم فيها إلى قوانين الجمهورية و التي لا تنسجم بالضرورة لا مع تعاليم الإنجيل و لا مع إملاءات الفاتيكان.
و كنت فوق الثلاثين بقليل عندما تهيأت لي ظروف السفر إلى المملكة العربية السعودية لغرض شخصي. و مرة أخرى، لم أضطر إلى الاستنجاد بأي كان لفهم ما ينظم الحياة بتلك الصحراء المعطاء. كانت مرجعية البلاد واضحة المعالم و كانت القوانين الجاري بها العمل منسجمة تماما مع هذه المرجعية. لقد وجدتني ضيفا على مجتمع الدين فيه شأن عمومي، مجتمع محافظ لا يؤمن بالحداثة إلا في شقها التكنولوجي إلى درجة أنه أحدث شرطة خاصة مهمتها الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر ـ بمقاربة إسلامية طبعا ـ إضافة إلى التحقق من إغلاق التجار لدكاكينهم أثناء أداء الصلوات.
الحياة في فرنسا ممكنة، و الانسجام في فرنسا ممكن، بل هو أمر واقع فعلا. و لهذا السبب لا أعتقد بأن للفرنسي أدنى رغبة في التخلي عن أسلوب الحياة الذي ألفه. الحياة في السعودية ممكنة، و الانسجام في السعودية ممكن، بل هو أمر واقع فعلا و لا أظن بأن للسعودي أدنى ميل إلى التنازل عن أسلوب الحياة الذي ورثه… و طبعا كل من ولج التراب الفرنسي أو التراب السعودي من الأجانب ليس أمامه من خيار غير احترام مقومات المجتمع المحلي و قوانينه، و ويح لمن سولت له نفسه الدوس على النظام السائد.
لـــــــــــــــــــــــــــــــــــــكن ، ماذا عن مجتمع قانون أحوال أهله الشخصية ديني في مجمله في حين أن الكثير من مظاهر حياته ـ و خاصة بالفضاءات العامة ـ لا تقل علمانية عن مظاهر حياة الاسكندينافيين و الأمريكيين اللاتينيين ؟
ماذا عن مجتمع تعود الكثير من أفراده على قيام الليل و صوم جزء من شوال أيضا لكنه في نفس الوقت لا يجد أي حرج في توفير خدمات التدليك “الصحي” في سياق يختلط فيه الدلاكون بالمدلكات و تختلي فيه الدلاكات بالمدلكين ؟
ماذا عن مجتمع لا تتوقف إحدى قنواته التلفزيونة عن تذكير الناس بضرورة الالتزام بأخلاق الإسلام الفاضلة في حين تواظب قناة وطنية أخرى على الترويج للقيم المستوردة مع الاكتفاء أحيانا بإشهار إعلان دخول وقت الصلاة على خلفية الرسوم المتحركة ؟
ماذا عن مجتمع يهرول العديد من أفراده إلى بيوت الله لكسب أجر صلاة الجماعة و يتقاطرون بدون انقطاع على الديار المقدسة لأداء مناسك العمرة لكن لا أثر لعبادتهم على سلوكهم اليومي ؟
ماذا عن مجتمع يبيعك الخمر كما يبيعك الخبز أو زيت المائدة و في نفس الوقت لا يتردد في الزج بك في السجن لحيازته ؟
ماذا عن مجتمع يلح على ضرورة التمييز بين الحلال و الحرام لكنه لا يمانع في أن يسير اقتصاده وفق مبدأ “الغاية تبرر الوسيلة” و خاصة في المجالين المالي و السياحي ؟
ماذا عن مجتمع ألغى مفهوم الردة و أصبح يحمل شعار “لا إكراه في الدين” لكنه لن يرحمك إذا ضبطك متلبسا بإفطار رمضان ـ و لو ببيتك ـ أو قدر لك أن تولد مجهول الأب ؟
ماذا عن مجتمع اعتبر بلده ـ و لقرون طويلة ـ امتدادا طبيعيا للشرق (الشرق بمعناه الحضاري و ليس بالضرورة بمعناه الجغرافي) لكن مجموعة لا يستهان بها من مفكريه و مثقفيه يتبرأون اليوم من هذا الانتماء و كأن البديل جاهز و كله مزايا أو كأن البلاد جزيرة معزولة لا تؤثر و لا تتأثر ؟
و ماذا عن مجتمع تعترف بمرجعيته الموروثة كل موسوعات العالم لكن برلمانه يتسع للشيوعيين و الاشتراكيين و الإسلاميين و الليبراليين و العلمانيين و المحافظين و الإيكولوجيين و المعتدلين المهادنين و المتطرفين الاستئصاليين و اليساريين و اليمينيين و لأهل وسط اليمين و أهل وسط اليسار … و حتى لغير المصنفين و المتفرجين السلبيين ؟ (الولايات المتحدة الأمريكية بجلال قدرها لا يتناوب على الحكم فيها إلا حزبان سياسيان تكاد تكون مسألة الإجهاض نقطة الخلاف الوحيدة في مواقفهما.)
لم يكن كل هذا سوى غيضا من فيض.
إن الإنسان ـ و هذه حقيقة لا تحتاج إلى تأكيد ـ لا يحيى بالأكل وحده بل يحيى أيضا بغرائزه الأخرى و بعمل شريف و سكن لائق و أمن مستتب و عدالة قائمة و كرامة مضمونة … إضافة طبعا إلى هوية حضارية واضحة المعالم تضبط حركاته و سكناته وعلى إيقاعها يتحقق تفاعله مع مجتمعه و دولته بما يضمن انسيابا طبيعيا للحياة. و ليس المقصود هنا هو تحويل المجتمع إلى مدينة سعيدة و فاضلة بلا خطايا و بلا أخطاء بل المراد هو الحيلولة دون الوقوع في التناقضات الصارخة و بالتالي تمكين الجميع من ملامسة حد أدنى من الانسجام المجتمعي و الذي بدونه تتحول الحياة إلى عبث حقيقي.
لقد أثبت التاريخ بما لا يدع مجالا للشك بأن التصنيف الحضاري للأمم عملية أساسية في تحديد المرجعية التي على أساسها تسن القوانين و على ضوئها توضع مخططات التنمية و انطلاقا منها تتخذ القرارت مهما كان حجمها من إعلان الحرب على الجيران أو الغزاة إلى مجرد الترخيص بتمرير وصلة إشهارية عن نوع معين من الفوطات الصحية. أما المجتمع الذي لا يتوفر على مرجعية ثابتة و واضحة فهو بالتأكيد مجتمع يخبط خبط عشواء في بحر بلا قرار أو في صحراء بلا حدود.
و على الرغم من تشبعي بمقومات انتمائي فإني في ظل هذه الظرفية الرديئة و المليئة بالإكراهات لا أدفع لا في اتجاه النموذج الفرنسي بالتحديد و لا في اتجاه النموذج السعودي بالذات. المهم هو وضع حد للضبابية المستشرية و لحالة اللاتصنيف التي بدأت مع الاستعمار الفرنسي و تكرست بعد الاستقلال و التي لا تسمح بوضعنا لا في خانة الغربيين اللادينيين و لا في خانة الشرقيين المحافظين مع الاقتناع كل الاقتناع بأن معظم المشاكل الاجتماعية التي تعرفها المملكة ـ و خاصة الكبرى منها ـ تجد تفسيرها في هذا الوضع الشاذ و غير الصحي، بل لن أبالغ إذا قلت بأن غياب التصنيف هو مأساتنا الأولى، و من يعتقد بأن الجمع بين الحداثة على الطريقة الغربية و الأصالة على الطريقة الشرقية أمر ممكن فهو كمن يؤمن بإمكانية الجمع بين القبعة الإنجليزية و الجلباب المغربي أو بين البيتزا الإيطالية و الرفيسة الدكالية .
نحن اليوم إذن على مفترق طرق من الواجب تجاوزه إما بتأكيد هويتنا الحضارية الموروثة أو بالانخراط رسميا و دستوريا و دون مواربة في العالم اللائكي اللاديني على الأقل لرفع التناقضات التي تطبع حياتنا اليومية على أكثر من صعيد و لتبرير مجموعة لا يستهان بها من السلوكات المجتمعية و الأنشطة الاقتصادية التي لا تزداد إلا تجذرا. من مصلحة ناشئتنا إذن أن نحدد لها منذ نعومة أظافرها المعسكر الذي تنتمي إليه : هل هو معسكر “بابا نويل” أم معسكر “بابا عيشور” ؟ ليس هناك شيء إسمه “المواطن الكوني”، و من لديه اقتناع بإمكانية صناعة هذا النوع من المواطنين فهو يضحك على ذقنه و على ذقون الناس. ثمة مغاربة كثر أفنوا زهرة شبابهم و شجرة كهولتهم بالديار الغربية لكنهم رفضوا أن يلفظوا أنفاسهم الأخيرة بها فعادوا و كلهم شوق ليقضوا ما تبقى من أيام حياتهم بجبال الريف المقفرة أو بصحراء مرزوكة القاحلة أو بين صخور الأطلس الصغير الصماء. و ثمة مفكرون و مثقفون عرب كثر انغمسوا انغماسا كليا في الحضارة الغربية لكنهم قرروا في نهاية المطاف إعادة اكتشاف لغتهم العربية و النبش في الكتب الثراتية الصفراء.
إن الوطن في حاجة إلى ثوابت واضحة و تصنيف حضاري يسمح بسن تشريعات متناغمة و يؤسس لسلوكات تنسجم مع المرجعية المنتقاة و يضع قواعد تعايش شفافة و لا يقبل أكثر من تأويل واحد و إلا ستظل مختلف أصناف الاحتجاج و مختلف تجليات الإحباط و الرداءة قائمة ابتداء من التهافت على التجنس بجنسيات غربية ـ لمن استطاع إلى ذلك سبيلا ـ و انتهاءا بالتبول على الجدران و إثارة الشغب بالملاعب ـ و هذا أضعف “الإيمان”. التصنيف المجتمعي يظل هو الأساس. المقاربة إذن ليست تقنية أو اقتصادية بالدرجة الأولى، و الإصرار على تجاهل الطابع المعنوي و الحضاري لأزمتنا لن ينجم عنه إلا المزيد من التيه الحضاري.
و مجمل القول : التصنيف يريح و “التجلويق” يتعب.
ختاما، تجدر الإشارة إلى أني لست من دعاة الرجوع بعقارب الساعة إلى الوراء. رسالتي الحضارية تنحصر في التنبيه إلى ضرورة التدخل لضبط عمل هذه العقارب كلما اتضح بأنها لا تشتغل بالانتظام المطلوب.
إضافتان لهما علاقة بما سبق :
“التجلويق” قد يكون لغويا أيضا. فقد أقدمت مدرسة رباطية تابعة لوكالة التعليم الفرنسي في شهر يناير الماضي على الرفع من عدد ساعات تعلم اللغة العربية (أقول اللغة العربية). و في الوقت الذي أكد فيه مجلس الدولة الفرنسي مشروعية الزيادة استشاط أولياء التلاميذ المغاربة غضبا و ملأوا الدنيا ضجيجا في محاولة منهم لحمل المؤسسة على التراجع عن قرارها و كأن الأمر يتعلق بلغة دخيلة أو مسرطنة أو منبوذة أو زائدة عن الحاجة. أصبت بصدمة قوية عندما اطلعت على مضمون هذا الخبر، إذ لم أكن أتوقع إطلاقا أن تصل علاقة بعض المغاربة بلغة جلادهم السابق إلى هذا الحد من العشق و التمجيد و أن تصل علاقتهم بلغة قرآنهم إلى هذا الحد من الإساءة و التحقير.
و في سياق آخر، ذكرت وسائل إعلامية مؤحرا بأن مؤسسة تعليمية دولية بالدارالبيضاء بصدد البحث عن ممرضة لإلحاقها بطاقم العمل لديها. الغريب في الموضوع أن الإعلان المنشور لهذه الغاية حدد ضمن شروط الترشح لهذه الوظيفة عدم ارتداء المرشحة للحجاب الشرعي (!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!) من منا كان يتوقع بأنه سيأتي يوم يحارب فيه رمز من رموز ديننا على أرضه و من قبل أجانب ؟